ذكرى المولد النبوي.. يوم أن ولد النور في مكة وسطع في الكون كله

مكة المكرمة – بال بلس
الربع الأول من عام 571 م لم يكن فصلاً عادياً في تاريخ البشرية إنه يوم المولد النبوي، حيث كانت السيدة آمنة بنت وهب تستعد للمخاض، وتعد موعد جديد مع التاريخ لميلاد آخر وأعظم أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.

كانت مكة تعيش مع الرجال والأصنام والقيم التي انحرفت عن الدين الإبراهيمي، وتبع العرب مكة في دياناتهم، وتكدست مئات الأصنام حول الكعبة المشرفة، وكل صنم هو سيد قبيلة أو رب قبيلة، صنم عشيرة ترشده بمالها وتتطهر معه في الحج وتعطيه القرب والأصوات.

وكانت الكعبة هي أول بيت بني للناس، كما وصفها الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾. (آل عمران، 96).

كعبة البيت العتيق.. بيت الله الذي دنسه عمرو بن لُحيَ

إلا أن هذا بيت الهداية قد حوله العرب على مدى قرون إلى محطة للأوثان، حيث جلب الزعيم العربي عمرو بن لُحيَ الخزاعي أصنامًا من بلاد الشام، بعد أن أحب التماثيل التي رأى بلاد الشام يتناوبون ويقدمون الهدايا لها.

وتتحدث المصادر الإسلامية بإزراء وتوبيخ شديد عن عمرو بن لُحيَ الخزاعي، الذي كان أول من أدخل الشرك بالله وقطع رباط التوحيد بعد أن كانت شبه الجزيرة العربية لقرون في دين أبيها إبراهيم عليه السلام، دين خالص وقيّم، وقد أوضح النبي محمد صلى الله عليه وسلم مصير “عمرو بن لحي” وسوء عاقبته، بقوله: (رأيت عمراً بن عامر الخزاعي يجر قصبه -أمعاءه- في النار، فكان أول من سيّب السوائب).

والد رسول الله ثاني الذبيحين.. قصة الفداء العظيم

لما رجع شيبة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي إلى مساكن قومه قوم البطحاء سادة مكة برفقة عمه المطلب بن عبد مناف سمّته قريش عبد المطلب، بسبب لونه الأسمر مثل أخواله آل النجار من الخزرج الأزديين، من سكان المدينة المنورة، التي كانت في ذلك الوقت تحمل اسم يثرب.

وسرعان ما كشف الشاب عبد المطلب عن مقدرته وسيادته، وما زال يمجد قدره، وأثار حسد أبناء عمومته من جميع قبائل قريش، ومع ذلك ظل صامداً حتى وصوله إلى سيادة البيت العتيق.

وأقسم عبد المطلب بعد الصعوبات التي عاشها إن رزقه الله عشرة أبناء ليذبح أحدهم في الكعبة قرباناً لله واستمر الأبناء المجيدون من نسل عبد المطلب، حتى اكتمال العشرة رجال وست بنات، دعا عبد المطلب جميع قريش إلى البيت القديم ليشهدوا الوفاء بالنذر.

ثارت قريش رفضاً لهذا القرار، وبعد مجهود قرروا التضحية بعشر جمال فداءً للذبيح، ووضعت الكؤوس وبدأ التصويت، وكلما ضربت الكؤوس خرج اسم عبد الله، فيخرج عبد المطلب عشرة إبل فداء له، وفي المرة العاشرة وبعد أن أكتمل عدد الإبل مئة، خرج السهم على الإبل ونجا عبد الله من المذبحة، فثبت دية المقتول بالخطأ في تعاليم الإسلام على أنها مائة من الإبل أو ما يعادل ثمنها.

العريس سيد شباب مكة وأجملهم والعروس سيدة فتيات مكة وأجملهم

خرج عبد الله بن عبد المطلب منتصراً من معركة القداح وعاد لفرقة الحياة بعد أن كادت مدية عبد المطلب القضاء عليه بسبب نذر جاهلي، وأصبح كما أمسى أشهر وأهم وأجمل شباب قريش.

وكان عبد الله جميل الوجه لألاء الجبين، وسار نور النبوة بين عينيه، وهبة الحرية والجلال، ورسمت الأقدار على وجنتيه هالة من روعة البهاء، فأسر قلوب فتيات قريش وكل منهن أرادوا أن يكون زوجها المتوقع.

وحتى أنه تمت دعوته علنًا من قبل إحدى الفتيات من مكة للزواج، فاعتذر لها لأن والده خطب له فتاة من سلالة المجد والفضل من قبيلة زهرة القرشية، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وكانت سيدة نساء المدينة في ذلك الوقت جمالاً ومكانة ونسباً.

وأقيم حفل الزفاف السعيد في مكة، وانضم إليه السادات وتم العقد وفق الديانة الإبراهيمية السمحة، وتداعت النساء على العروس الرزان التي يزينها زوجها الجميل المعطاء، ويرافق أولاد وبنات البطحاء موكب العروس بالأغاني والأناشيد، ويغني الكون معهم تراتيل مهيبة، إيذاناً ببناء بيت النبوة ومهد العظمة وجلال الأخلاق الذي سيولد بين أسسه وأركانه محمد بن عبد الله رسول الله صلَّ الله عليه وسلم.

ومرت أيام العرس السعيد، وعاد عبد الله بن عبد المطلب إلى قطيع عمله في مكة ومجالس شبابها، والتقى بالفتاة المكية مرة أخرى، فسألها عما دعته إليه من زواج قبل ذلك، فنظرت إلى جبينه الوضاء وأعادت الكرة مرتين، ثم قالت له: “ذهب النور الذي كان معك”.

“أنا رب الإبل، وللبيت رب سيحميه”.. عام الفيل

لم يكن لطموحات أبرهة حاكم اليمن الحبشي حدود، لذلك قرر من بين أطماعه المجنحة صرف العرب عن حج الكعبة المشرفة إلى كنيسته التي بناها وأطلق عليها اسم القليس. فثارت دماء العزة في عروق الإنسان العربي في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية، وقرر أحد الأعراب أن يلوث البيت المقدس الجديد، فملأه رجعياً وعذرة.

فهب أبرهة انتقامًا لكنيسته المدنسة، وسار بجيش من الأفيال المدربة للقتال، نحو مكة، ولم تصمد بعض الفصائل العربية التي سارعت لصده عن مكة، وعند منطقة اسمها المغمس بين مكة والطائف، استولى أبرهة على إبل لسيد مكة عبد المطلب بن هاشم، وأثناء الانتظار وصل ابن هاشم راغبًا في استرداد إبله، وتبع ذلك حوار قصير بين الرجلين أظهر فيه أبرهة دهشته من مطالب عبد المطلب التي تقتصر على استرجاع الإبل، فرد عليه ابن هاشم:” أنا رب الإبل، وللبيت رب سيحميه”.

وكانت قوة أبرهة أقوى من قوة قريش وبقية العرب، وعندما شعر عبد المطلب بعجزه أمام قوة الطاغية الحبشي، بقي في البيت يرتجف ويصلي:

لاهُمَّ إن العبد يمـــنع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليـــب وعابديه اليوم آلك

حاول أبرهة الأشرم هدم الكعبة بفيل عظيم، فجاء عذاب الله من السماء بالطير الأبابيل

وتدخلت القوة الكونية العليا، فالفيل العظيم – واسمه محمود – رفض الذهاب إلى البيت القديم كما ورد في كتب السيرة النبوية، وفي كل مرة يوجه في اتجاه كان يسير إليه إلا جهة الحرم، حيث أصر على عدم مشاركته في جهود هدم البيت الحرام.

ولم يدم الانتظار طويلاً، لأن رب البيت حمى بيته، ودارت دورة الموت على أبرهة، بعد أن فتحت السماء أبوابها بطيور أبابيل، رشقوه بالحجارة من سجيل، حسب ما خلدته سورة الفيل، مما جعل تلك القصة الخالدة ذكرى نبوية تتلى في الليل وفي نهاية النهار.

ومع تلك الهزيمة المدوية لجيش أبرهة، الذي تناثرت رفاته وحلقت تحت قصف طير الأبابيل، حملت تلك الذكرى اسم عام الفيل، ولم يكن هناك أكثر من خمسين يومًا قبل المولد النبوي الشريف، كما يدل على ذلك التاريخ وحساب الفلك والأيام التي تليها.

بشائر الميلاد العظيم.. خمود نار الفرس وسقوط شرفات كسرى

ترافق المولد النبوي الشريف بأحداث عظيمة قرأتها القوى الدينية في زمانه كبشارة لميلاد النبي الموعود الذي كان نجمه يرتفع.

حين ولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، صاح يهودي في يثرب يا معشر يهود ظهر نجم أحمد

وكان إيوان كسرى في عظمته ومكانته، على موعد مع زلزال كبير أطاح بأربعة عشر من شرفات القصر المنيف، ومع ولادة الدولة الإسلامية سقطت أيضًا خلال الحكم أربعة عشر كسرى من ملوك فارس، آخرهم “يزدجر” حيث قتله المسلمون وأنهوا معه حكم مملكة فارس.

ولم تفلت نار بلاد فارس التي يعبدونها من إرهاصات الحدث الكبير المولد النبوي الشريف، إذ انطفأت فجأة، بعد أن استمرت أشعتها وألسنة اللهب قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوي في العراق، بعد أن كانت لقرون ملتقى للأمواج والسيول الدائمة.

نار المجوس التي كانت تعبد في بلاد فارس ولا تزال لها طقوس حتى يومنا هذا، لم تنطفئ إلا يوم المولد النبوي

وأما لحظة المولد النبوي الشريف فكانت لحظة حاسمة، كما وردت في كتب السيرة النبوية، حيث روي عن والدته أمينة أنها قالت: “رأيت لما وضعتُه نوراً بدا مني ساطعاً حتى أفزعني ولم أر شيئاً مما يراه النساء”.

ورافق النور للبدر المضيء عليه الصلاة والسلام، فقالت والدته قائلة: “فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى لأقول لتقعنّ علي”.

ولد الرسول الكريم صلَّ الله عليه وسلم كاملاً، معذورًا، سعيدًا، مطيرًا نحو السماء، مشيرًا بإصبعه السبابة كأنه يسبح به، ولم يكن من المستغرب أن يكون المولد النبوي هو ولادة مخلص البشرية وخاتم الرسل مختلفة عن بقية ما عرفه الناس أو كانوا على دراية في ميلاد البشر، كان صلَّ الله عليه وسلم مختلفًا عن العالم، وصرخة في التاريخ تدعو إلى خلاص البشرية من دنس المعصية والخداع الآثم.

تاريخ المولد النبوي الشريف.. (ذلك يوم ولدت فيه)

إن ولادة الرسول صلَّ الله عليه وسلم لم تثبت بدقة بالغة ولها عدة أقوال في يوم ميلاده، ولا ريب في أنه كان يوم الاثنين، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (ذلك يوم ولدت فيه).

ولكن المؤرخين وكتاب السيرة النبوية قد استشهدوا بأقوال كثيرة عن شهر ويوم ولادته وروى ابن كثير أنه ولد يوم الاثنين من ربيع الأول، وقيل في اليوم الثاني عشر من نفس الشهر، وهو أشهر يوم عند المسلمين لكونه يوم المولد النبوي ولادة سيدنا محمد صلَّ الله عليه وسلم.

وبينما يرى باحثو أهل الفلك والتسلسل الزمني أنه من المرجح بالفعل أن يكون يوم المولد النبوي هو يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول الموافق 22 أبريل 571 م، كما حققه الباحث المصري الراحل محمود باشا عالم الفلك الذي توفي عام 1885، وتبعه عدد كبير من علماء الفلك، وكانت ولادته في بيت عمه أبي طالب بشعب بني هاشم.

من خلال البرمجيات الفلكية، يمكن التحقق من دقة الحوادث الفلكية التاريخية

ولم تكتحل عيون عبد الله برؤية ابنه الذي سيغير العالم، ولا تكحلت عيون النبي المولود برؤية أبيه عبد الله، الذي اختطفه المنون عندما كان شابًا عند أخواله في الطريق إلى المدينة المنورة.

وثم ماتت والدته باكراً وهي في طريقها لزيارة قبر زوجها الراحل، فدفنت في أبواء في طريقها إلى المدينة المنورة، وهكذا فقد الرسول الكريم والديه وهو في السادسة من عمره وذاق طعم اليتم كأن القدر أعده ليكون أباً للأيتام وثِمال الأرامل المساكين.

المولد النبوي.. صنع في العراق ونشأ في مصر.

منذ قرون، احتفل المسلمون بذكرى المولد النبوي الشريف، وكانت أولى الاحتفالات في العصر الفاطمي بحسب أحد أقوال التاريخ الإسلامي، بينما كان الإمام السيوطي يعتقد أن البداية كانت من مدينة أربيل العراقية حيث جعل أحد حكامها الاحتفال بيوم المولد النبوي عطلة يتنافس فيها الناس في تمجيد الذكرى والاحتفال بصاحبها صلَّ الله عليه وسلم.

وإذ شكك بعض علماء المسلمين في شرعية الاحتفال بيوم المولد النبوي، على اعتبار أن النبي صلَّ الله عليه وسلم وأصحابه لم يحتفلوا به، فقد نظر إليه كثير من العلماء من مختلف الدول الإسلامية والأجيال، أعظم مواسم الفرح الإسلامي وأعلى محطات الذكرى النبوية.

اقرأ /ي ايضاً: رأس السنة الهجرية دلالات وأحكام 1443

ومن هؤلاء العلماء المفتي العام لتونس وعالمها الكبير محمد الطاهر بن عاشور الذي رأى أن ما يملأ قلوب المسلمين في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام من قانون الحب الأسمى، وما يهز نفوسهم من الفيضان المنير الذي يفيض بالجمال والعظمة، ليبلغهم محملين بذكريات القرون الخالية برائحة طيبة تدل على ما تعامل معه أسلافهم الكرام في ذلك اليوم التاريخي العظيم وما ابتكروه لإظهار التعلق به وتمجيده من مظاهر الاحتفالات، فتنظر النفوس للتحقيق في أخبار تلك الأيام الزهراء وليالي الغراء، فالمسلمون الملوك والعامة يتنافسون على الوفاء بما هو ممكن بالحق في ذلك اليوم السعيد.

ولذلك يوم المولد النبوي هو اليوم السعيد والذكرى التي تأسر القلوب واللقب الأبدي للحب، ومن مصادفات الأيام والموافقات العجيبة أن المولد النبوي يصل اليوم بالتزامن مع حملة الإساءة المسعورة من قبل الغرب، واتخذ شكلها الرسمي في الإساءة باسم الدولة والنظام لأمة يزيد عددها عن ملياري شخص، وإلى أعظم رجل في التاريخ، وأصبحت الأيام كتابًا تمجده بعد أن مجده القرآن الكريم بمديح رباني خالد: ﴿وَإِنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (الآية 4، سورة القلم).